المقالة الثالثة عشر من سلسلة التفسير
المقالة الثالثة عشر
من سلسلة التفسير
2-جمع القرآن الكريم
...والذى قصدنا نقله هو:
أنه لا يشكلن عليك في هذا المقام ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال:
مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
قال:
ونحن ورثناه
وأبو زيد هذا أسمه قيس بن السكن كما رواه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين.
وإنما قلنا لا يشكلن عليك هذا الحديث لأن الحصر الذي تلمحه فيه حصر نسبي وليس حصرا حقيقيا حتى ينفي أن يكون غير هؤلاء الأربعة قد جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدليل على أن هذا الحصر إضافي لا حقيقي
هو ما رواه البخاري عن أنس نفسه أيضا
وقد سأله قتادة عمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
أربعة كلهم من الأنصار:
أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ا هـ.
فأنت ترى أن أنسا في هذه الرواية ذكر من الأربعة أبي بن كعب بدلا من أبي الدرداء في الرواية السابقة.
وهو صادق في كلتا الروايتين
لأنه ليس بمعقول أن يكذب نفسه فتعين أنه يريد من الحصر الذي أورده الحصر الإضافي
بأن يقال إن أنسا رضي الله عنه تعلق غرضه في وقت ما بأن يذكر الثلاثة ويذكر معهم أبي بن كعب دون أبي الدرداء حاصرا الجمع فيهم ثم علق غرضه في وقت آخر بأن يذكر الثلاثة ويذكر معهم أبا الدرداء دون أبي بن كعب.
وهذا التوجيه وإن كان بعيدا إلا أنه يتعين المصير إليه جمعا بين هاتين الروايتين وبينهما وبين روايات أخرى ذكرت غير هؤلاء.
ومن هنا قال الماوردي:
لا يلزم من قول أنس رضي الله عنه لم يجمعه غيرهم
أن يكون الواقع كذلك في نفس الأمر
لأنه لا يمكن الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد
ولا يتم له ذلك إلا إذا كان قد لقي كل واحد منهم وأخبر عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا في غاية البعد في العادة.
وكيف يكون الواقع ما ذكر وقد جاء في صحيح البخاري أيضا من طريق حفص بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"خذوا
القرآن عن أربعة:
عن عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب"
والأربعة المذكورون منهم اثنان من المهاجرين وهما الأولان واثنان من الأنصار وهما الأخيران. ا هـ.
ولعل مراد الماوردي بهذا نفي الحصر الحقيقي وتوجيه الحصر الإضافي على نحو ما بينا مستدلين بحديث أنس نفسه
كما رأيت وبالروايات الأخرى التي حكى بعضهم فيها التواتر وهي تصرح بأسماء أخرى غير أسماء هؤلاء الأربعة المذكورين في رواية أنس هذه.
من تلك الروايات ما أخرجه النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال:
جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:
"اقرأه في شهر" إلى آخر الحديث.
ومنها ما أخرجه ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال:
جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار
معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري.
وذهب بعضهم إلى أن الجمع في حديث أنس المذكور مراد به الكتابة لا الحفظ.
وبعضهم ذهب إلى أن المراد به الجمع بوجوه القراءات كلها أو تلقيا ومشافهة عن الرسول أو الجمع شيئا فشيئا حتى تكامل نزوله.
وللإمام أبي بكر الباقلاني أجوبة ثمانية يحاول بها دفع إشكال هذا الحديث. لكن ابن حجر ضعفها وغيره فنَّدها.
والخطب سهل على كل حال وفيما ذكرناه كفاية للخروج من هذا الإشكال.
غير أنه لا يفوتني أن أقضي لك على هذا الإشكال بكلمة أعجبتني عن المازري إذ يقول ما نصه:
وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره:
سلمناه. ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟
سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألا يكون حفظ مجموعه
الجم الغفير.
وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى
وقال القرطبي:
قد قتل يوم اليمامة سبعون وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد.
قال:
وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم اهـ.
ثم إن ما ذكرناه في هذا المقام لا يتجاوز دائرة الصحابة الذين جمعت صدورهم كتاب الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فقد أتم حفظ القرآن آلاف مؤلفة من الصحابة
واشتهر بإقراء القرآن من بينهم سبعة:
عثمان وعلي وأبي بن كعب وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري.
كلهم جمعوا التنزيل بين حنايا صدورهم وأقرؤوه لكثير غيرهم.
جازاهم الله أحسن الجزاء. آمين.