المقالة الرابعة والعشرون من سلسلة الرقائق
المقالة الرابعة والعشرون
من سلسلة الرقائق
من كتاب موارد الظمآن لدروس الزمان
قال شيخ الاسلام ابن قيم الجوزية :
ومِن عُقُوباتِ الذُنُوب أنها :
تَصْرِفُ القَلْبَ عن صِحَّتِهِ واسْتِقَامَتِهِ إلى مَرَضِهِ وانْحِرَافِهِ ، فَلا يَزَالُ مَرِيضًا مَعْلُولاً لا يَنتفعُ بالأغذيةِ التي بها حَياتُه وصَلاحهُ .
فإن تأثير الذنوب في القلب كتأثير الأمراض في الأبدانِ ، بل الذنوب أمراضُ القلوب ودَاؤُها ، ولا دَواءَ لَهَا إلا تَركُها .
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِجَ المُتَّقِينِ ، وَخُصَّنَا بِالتَّوْفيقِ المُبِينُ ، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنَ المقَرَّبِينَ الذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
( فَصْلٌ ) :
وقد أجمع السائرون إلى الله أنَّ القلوبَ لا تُعطي مُنَاهَا حَتَّى تصل إلى
مَوْلاَهَا ، وَلا تَصِلُ إِلَى مَوْلاَهَا حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً سَلِيمَةً ، ولا تكون صَحِيحَةٌ سَلِيمَةً حَتَّى يَنْقَلِبَ دَاؤُهَا فَيَصِيرَ نَفْسَ دَوَائِهَا .
ولا يَصِحُ لَهَا ذَلكَ إَلا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا ، فهواها مرضُها ، وشفاها مخالفتهُ ، فإن استحكم المرض قتل أو كاد .
وكما أنَّ مَن نَهَى نفسهُ عن الهوى كانت الجنة مأواه ، كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نَعيمًا البتة .
بل التفاوتُ الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نَعِيمَ الدنيا ونعيم الآخرة ، وهذا أمر لا يصدق به إلا من بَاشَرَ قلبه هذا وهذا .
ولا تحسب أن قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾
مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط ، بل في دورهم الثلاثة كذلك .
أعني :
دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، فهؤلاء في نعيم ، وهؤلاء في جحيم ، وهل النعيم إلا نعيم القلب ؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب ؟ .
وأي عذابٍ أَشَدُّ مِنَ الخوفِ والهمَّ والحزنِ وضيقِ الصدرِ وإعراضِهِ عن الله والدار الآخرة وَتَعَلُّقِهِ بغيرِ اللهِ وانقطاعِهِ عن اللهِ ؟ بكل واد منه شعبة ، وكل شيء تعلق به وأَحَبَّهُ مِن دونِ اللهِ فإنه يَسُومُه سُوءَ العذاب .
فَكُلُ مَنْ أَحَبَّ شيْئًا غيرَ اللهِ عُذِبَ به ثَلاثَ مَرَّات : في هذه الدار ، فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل ، فإذا حَصَل عُذِّبَ به حَال حُصولِهِ بالخوفِ مِن سَلْبِهِ وفواتِهِ والتنغيصِ والتنكيدِ عليه وأنواع المعارضات ، فإذا سُلِبَهُ اشْتَدَّ عَذَابهُ عليه .
فهذه ثلاثةُ أنواع من العذاب في هذه الدار .
وأما في البرزخ فعذاب يقارنه أَلَمُ الفراق الذي لا يرجى عوده ، وألم فوات ما فاته مِن النعيم العظيم باشتغاله بضده ، وألم الحِجَابِ عن الله ، وألم الحسرةِ التي تقطع الأَكباد .
فالهَمُ والغَمُ والحسرةُ والحزنُ تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم ، بل عَمَلُها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها ، فحينئذٍ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر .
فأين هذا مِن نعيم مَنْ يرقص قلبه طربًا وفرحًا وأُنسًا بربه ، واشتياقًا وارتياحًا بحبه وطمأنينة بذكره ؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه : وأطرباه . ويقول الآخر : إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إِنهم لفي عَيْشٍ طيب .