المقالة الخامسة والعشرون من سلسلة الرقائق
المقالة الخامسة والعشرون
من سلسلة الرقائق
من كتاب مورد الظمآن لدروس الالزمان
وقال الآخر :
مَسَاكينُ أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لَذيذَ العيشِ فيها وما ذاقوا أَطْيَبَ ما فيها .
ويقول الآخر :
لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .
ويقول الآخر :
إِنَّ في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخر . فيا مَن باع حظه الغالي بأبخس الثمن ، وغبن كُلَّ الغبنِ في هذا العقد وهو يرى أنه قد غَبَنَ ، إذا لم تكن لك خبرة بقيمة السلعة فاسأل المقومين .
فيا عجبًا مِن بِضَاعَةٍ مَعَكَ اللهُ مُشْتَرِيها ، وثَمَنُها جَنَّةُ المأْوىَ ، والسفيرُ الذي جرى على يده عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول وقد بِعْتَهَا بغايةِ الهوان !! .
هَل الدُّنْيَا وما فيهَا جَمِيعًا
( سِوَى ظِلٍّ يَزُولُ مَعَ النَّهَارِ
(
تَفَكَّر أَيْنَ أَصْحَابُ السَّرَايَا
( وَأَرْبَابُ الصَّوافِنِ والعِشَارِ
(
وَأَيْنَ الأَعْظَمُونَ يَدًا وَبَأْسًا
( وَأَيْنَ السَّابِقُونَ لِذِي الفِخَارِ
(
وَأَيْنَ القَرْنُ بَعْدِ القَرْنِ مِنهُمْ
( مِنْ الخُلَفَاء والشُمِ الكِبَارِ
(
كأَنْ لَمْ يُخْلَقُوا أَوْ لَمْ يَكُونُوا
( وهَلْ أَحَدٌ يُصَانُ مِنَ البَوارِ
(
( فَصْلٌ ) :
ومن عقوباتها
أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تَجدُ عاقِلين أَحَدهما مُطِيعٌ والآخرُ عاصٍ إِلا وَعَقْلُ المطيع منها أَوْفَرُ وأَكْمَلُ وفِكْرُهُ وَرَأَيُهُ أَسَدُّ والصوابُ قَرِينه .
ولِهَذا تِجَدُ خِطاب القُرآن إنما هو مَعَ أولى الألباب والعقول كقوله :
﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾
وقوله :
﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾
ونظائر ذلك كثيرة .
وكيف يكون عاقلاً وَافِرَ العقل مَن يَعصِي مَن هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده فيعصيه ، وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مَسَاخِطه ويَستدعِي كل وقت غَضَبَه عليه ولَعْنَتَهُ له وإِبعادَهُ مِن قُرْبِهِ ، وطَرْدهُ من بابه وإعراضَه عنه وخذلانَه له والتخليةَ بينه وبين نفسه وعدوه وحرمانه من رضاه وحبه ، وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف ذلك مِن كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك مِن عقوبة أهل المعصية .
يَا ذا الذي حَمَّلَهُ جَهْلُهُ
مِن الْمَعَاصِي فَوْقَ ما يَقْوَى
البَسْ مِنْ التَّوْبَةِ دِيباجةً
مُعْلَمَةً بالنُسْكِ والتَقْوَى
واعْلَمْ بأنْ لَسْتَ تُرَى نَاجِيًا
إِنْ لَمْ تُطِعْ مَنْ يَعْلم السِّرَ والنَّجْوى
وقال آخر
قِفَا نَبْكي مِن عظمِ الذُنُوبِ وَفتكِها
( وَتَضْيِيْعِنا الأَوقات في غَيْر وَاجِبِ
(
ونَسْتَدْركُ الماضِي بِتَوبَةِ صَادِقٍ
( وَنَسْتَقْبِل الآتِي بِجِدِّ المُوَاضِبِ
(
وَنَعْمَلُ أَعْمَالاً حِسَانًا لَعَلّهَا
( تُكَفِّرُ عَنَّا مُفْضِعَات المَعَائِبِ
(
وقال آخر
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ لِبَاسًا من التُقَى
( تَقَلَّبَ عرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا
(
وَخَيْرُ خِصَالِ المرءِ طَاعَةُ رَبِهِ
( ولا خَيْرَ في مَنْ كَان لِلَّهِ عَاصِيًا
(
فأي عقل لمن آثر لذة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم ؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة .
ولولا العقل الذي تَقُوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين ، بل قد يكون
المجانين أحسن حالاً منه وأسلم عاقبة ، فهذا مِن هذا الوجه .
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيشي فلولا الاشتراك في هذا النقصان لَظَهَرَ لِمُطِيعِنَا نُقْصَانُ عقل عاصينا ، ولكن الجائحة عامة ، والجنون فنون .
ويا عجبًا لو صَحَّتِ العُقُولُ لَعَلمت أَنَّ الطرِيقَ الذي يحصل به اللذةُ والفرحةُ والسرورُ وطيّبُ العيشِ إنما هو في رضاء مَن النعيمُ كُلُه في رِضَاه والألمُ والعذابُ كله في سَخَطِهِ وغَضَبِهِ .
ففي رضاه قرةُ العيون ، وسرورُ النفوس ، وحياةُ القلوب ، ولَذَّةُ الأرواح ، وطِيبُ الحياةِ ولذةُ العَيشِ وأَطْيَبُ النعيم ممَّا لَو وُزنَ منه مثقالُ ذَرةٍ بنعيم الدنيا لم تَفِ بِهِ بل إذا حَصلَ لِلقلْبِ مِن ذلكَ أَيْسَرُ نَصِيبٍ لم يَرْضَ بالدنيا وما فيها عَوضًا منه .
ومَعَ هذا فهو يَنْعَمُ بنَصِيبِهِ أَعْظَمُ مِن تَنَعُّم المترفين فيها ، ولا يَشُوبُ تَنَعُّمهُ بذلك الحظِ اليسيرِ ما يشوبُ تَنَعُمُّ المترفين مِن الهموم الغموم والأحزانِ والمعارضاتِ ، بل قد حَصَلَ على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما . انتهى .