الرابعة من سلسلة قراءة فى كتاب زاد المعاد فى هدى خيرالعباد الرابعة
من سلسلة قراءة فى كتاب
زاد المعاد فى هدى خيرالعباد
تأليف شيخ الاسلام
محمد بن ابى بكر ايوب الزرعى الدمشقى
الشهير بابن قيم الجوزية691-751هجرية
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّيَامِ]
2-[إِكْثَارُ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ]
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ:
( «لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، أَوْ قَالَ: إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي، فَإِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» )
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُطْعَمُ وَيُسْقَى مَعَ كَوْنِهِ مُوَاصِلًا،
وَقَدْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مُنَكِّلًا بِهِمْ مُعَجِّزًا لَهُمْ،
فَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لَمَا كَانَ ذَلِكَ تَنْكِيلًا وَلَا تَعْجِيزًا،
بَلْ وَلَا وِصَالًا، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَاضِحٌ.
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لِلْأُمَّةِ، وَأَذِنَ فِيهِ إِلَى السَّحَرِ،
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
( «لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ» ) .
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهَلِ الْوِصَالُ جَائِزٌ أَوْ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟
قِيلَ:
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّهُ جَائِزٌ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عبد الله بن الزبير وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ،
وَكَانَ ابن الزبير يُوَاصِلُ الْأَيَّامَ،
وَمِنْ حُجَّةِ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ بِالصَّحَابَةِ مَعَ نَهْيِهِ لَهُمْ عَنِ الْوِصَالِ،
كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ "
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ
«نَهَى عَنِ الْوِصَالِ وَقَالَ:
(إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ)
فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا» ،
فَهَذَا وِصَالُهُ بِهِمْ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الْوِصَالِ،
وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لَمَا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا، وَلَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالُوا:
فَلَمَّا فَعَلُوهُ بَعْدَ نَهْيِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ وَيُقِرُّهُمْ، عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الرَّحْمَةَ بِهِمْ وَالتَّخْفِيفَ عَنْهُمْ، وَقَدْ قَالَتْ عائشة:
( «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ» ) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى:
لَا يَجُوزُ الْوِصَالُ، مِنْهُمْ مالك وأبو حنيفة وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ،
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ،
وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوهُ لِأَحَدٍ،
قُلْتُ:
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ،
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ،
وَاحْتَجَّ الْمُحَرِّمُونَ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالُوا:
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.
قَالُوا: وَقَوْلُ عائشة:
" رَحْمَةً لَهُمْ "
لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّحْرِيمِ، بَلْ يُؤَكِّدُهُ، فَإِنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ سَائِرُ مَنَاهِيهِ لِلْأُمَّةِ رَحْمَةٌ وَحِمْيَةٌ وَصِيَانَةٌ.