402-المقالة الثانية بعد المائة الرابعة من سلسلة السيرة النبوية 17-من شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وصف =كرمه= عليه السلام
402-المقالة الثانية بعد المائة الربعة
من سلسلة السيرة النبوية
17-من شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
ذكر كرمه صلى الله عليه وسلم
كرمه عليه السلام
تقدَّم ما أخرجاه في الصَّحيحين من طريق الزُّهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس قال:
كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود بالخير من الرِّيح المرسلة.
وهذا التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة في تشبيهه الكرم بالريح المرسلة، في عمومها وتواترها وعدم انقطاعها.
وفي الصَّحيحين من حديث سفيان بن سعيد الثوري، عن محمد بن المنكدر،
عن جابر بن عبد الله قال:
ما سئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شيئاً قط فقال: ((لا)).
وقال الإمام أحمد:
حدَّثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن موسى بن أنيس،
عن أنس
أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه
قال:
فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصَّدقة.
قال:
فرجع إلى قومه فقال:
يا قوم أسلموا فان محمداً يعطي عطاء ما يخشى الفاقة.
ورواه مسلم عن عاصم بن النضر، عن خالد بن الحارث، عن حميد.
وقال أحمد:
ثنا عفَّان، ثنا حماد، ثنا ثابت
عن أنس
أن رجلاً سأل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى قومه فقال:
يا قوم أسلموا فإنَّ محمد يعطي عطاء ما يخلف الفاقة.
فإنَّ كان الرَّجل ليجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدُّنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحبّ إليه وأعزّ عليه من الدّنيا وما فيها.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وهذا العطاء
=ليؤلِّف به قلوب ضعيفي القلوب في الإسلام،
=ويتألَّف آخرين ليدخلوا في الإسلام
كما فعل يوم حنين حين قسم تلك الأموال الجزيلة من الإبل، والشاء، والذَّهب، والفضة في المؤلفة،
ومع هذا لم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئاً،
بل أنفق فيمن كان يحب أن يتألَّفه على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير،
وقال مسلياً لمن سأل عن وجه الحكمة في هذه القسمة، لمن عتب من جماعة الأنصار:
((أما ترضون أن يذهب النَّاس بالشاء، والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم؟))
قالوا: رضينا يا رسول الله.
وهكذا أعطى عمَّه العبَّاس بعد ما أسلم حين جاءه ذلك المال من البحرين فوضع بين يديه في المسجد
وجاء العباس فقال:
يا رسول الله أعطني فقد فاديت نفسي يوم بدر، وفاديت عقيلاً.
فقال: ((خذ)) فنزع ثوبه عنه، وجعل يضع فيه من ذلك المال ثم قام ليقله فلم يقدر.
فقال لرسول الله: ارفعه علي.
قال: ((لا أفعل)).
فقال: مُرْ بعضهم ليرفعه علي.
فقال: ((لا)).
فوضع منه شيئاً، ثم عاد فلم يقدر، فسأله أن يرفعه، أو أن يأمر بعضهم برفعه، فلم يفعل، فوضع منه، ثم احتمل الباقي وخرج به من المسجد ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتبعه بصره عجباً من حرصه.
قلت:
وقد كان العبَّاس رضي الله عنه رجلاً شديداً، طويلاً، نبيلاً، فأقل ما احتمل شيء يقارب أربعين ألفاً، والله أعلم.
وقد ذكره البخاري في صحيحه في مواضع معلقاً بصيغة الجزم، وهذا يورد في مناقب العبَّاس لقوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
[الأنفال: 70].
وقد تقدَّم عن أنس بن مالك خادمه عليه السَّلام أنه قال:
كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود النَّاس وأشجع النَّاس، الحديث.
وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المجبول على أكمل الصِّفات،
الواثق بما في يديّ الله - عز وجل - الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز:
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}
[الحديد: 10] الآية
وقال تعالى:
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
[سبأ: 39].
وهو عليه السلام القائل لمؤذنه بلال وهو الصَّادق المصدوق في الوعد والمقال:
((أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).
وهو القائل عليه السلام:
((ما من يوم تصبح العباد فيه إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)).
وفي الحديث الآخر أنه قال لعائشة:
((لا توعي فيوعى الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك)).
وفي الصَّحيح أنَّه عليه السلام قال:
((يقول الله تعالى: ابن آدم أَنفق أُنفق عليك)).
فكيف لا يكون أكرم النَّاس وأشجع النَّاس وهو المتوكل الذي لا أعظم منه في توكله، الواثق برزق الله ونصره المستعين بربه في جميع أمره، ثم قد كان قبل بعثته وبعدها، وقبل هجرته ملجأ الفقراء، والأرامل، والأيتام، والضُّعفاء، والمساكين،
كما قال عمه أبو طالب فيما قدمناه من القصيدة المشهورة:
ومَا تركُ قَومٍ لا أبالكَ سَيداً * يحوط الذِمارُ غَيرَ ذربِ موكلِ
وأَبيضَ يستسقي الغَمامَ بوجهِهِ * ثمالَ اليتامَى عصمةً للأرامِلِ
يلوذُ بهِ الهلاكُ من آل هاشمٍ * فهمْ عندَهُ في نعمةٍ وَفَواضِلِ