التاسعة من سلسلة قراءة فى كتاب زاد المعاد فى خير هدى العباد صلى الله عليه وسلم التاسعة
من سلسلة قراءة فى كتاب
زاد المعاد فى هدى خيرالعباد
تأليف شيخ الاسلام
محمد بن ابى بكر ايوب الزرعى الدمشقى
الشهير بابن قيم الجوزية691-751هجرية
[فَصْلٌ ثُبُوتُ شَوَّالٍ]
فَصْلٌ
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُ النَّاسَ بِالصَّوْمِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ الْمُسْلِمِ، وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ إِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْعِيدِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْفِطْرِ، وَيُصَلِّيَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا.
وَكَانَ يُعَجِّلُ الْفِطْرَ وَيَحُضُّ عَلَيْهِ، وَيَتَسَحَّرُ وَيَحُثُّ عَلَى السُّحُورِ، وَيُؤَخِّرُهُ وَيُرَغِّبُ فِي تَأْخِيرِهِ.
[فصل في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفطر]
وَكَانَ يَحُضُّ عَلَى الْفِطْرِ بِالتَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ،
هَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ وَنُصْحِهِمْ،
فَإِنَّ إِعْطَاءَ الطَّبِيعَةِ الشَّيْءَ الْحُلْوَ مَعَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ وَانْتِفَاعِ الْقُوَى بِهِ،
وَلَا سِيَّمَا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ، فَإِنَّهَا تَقْوَى بِهِ، وَحَلَاوَةُ الْمَدِينَةِ التَّمْرُ، وَمُرَبَّاهُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ قُوتٌ وَأُدْمٌ وَرُطَبُهُ فَاكِهَةٌ.
وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنَّ الْكَبِدَ يَحْصُلُ لَهَا بِالصَّوْمِ نَوْعُ يُبْسٍ. فَإِذَا رُطِّبَتْ بِالْمَاءِ كَمُلَ انْتِفَاعُهَا بِالْغِذَاءِ بَعْدَهُ.
وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْلَى بِالظَّمْآنِ الْجَائِعِ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَ الْأَكْلِ بِشُرْبِ قَلِيلٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَأْكُلَ بَعْدَهُ، هَذَا مَعَ مَا فِي التَّمْرِ وَالْمَاءِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ،
وَكَانَ فِطْرُهُ عَلَى رُطَبَاتٍ إِنْ وَجَدَهَا،
فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ.
وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
( «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ) .
وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَبِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ وَقْتُ فِطْرِهِ كَأَصْبَحَ وَأَمْسَى، وَنَهَى الصَّائِمَ عَنِ الرَّفَثِ وَالصَّخَبِ وَالسِّبَابِ وَجَوَابِ السِّبَابِ،
فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ سَابَّهُ:
(إِنِّي صَائِمٌ)
فَقِيلَ:
يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ أَظْهَرُ،
وَقِيلَ:
بِقَلْبِهِ تَذْكِيرًا لِنَفْسِهِ بِالصَّوْمِ،
وَقِيلَ:
يَقُولُهُ فِي الْفَرْضِ بِلِسَانِهِ، وَفِي التَّطَوِّعِ فِي نَفْسِهِ،
لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ.