رسائل الى امى ...
رسائل إلى أمي
الرسالة الأولى
سلام من الله عليك يا أغلى من في الوجود ..
اليوم أشعر بحاجة كبيرة لتبادل حديث الصباح معك .. الأحداث تسير من حولنا بسرعة كبيرة لن تنتظر حتى أعود مع الطيور المهاجرة كي نتجاذب أطراف الحديث على فنجان قهوة الصباح أو على مائدة الافطار .
لا أعلم لماذا خطر ببالي أحداث الحرب الأخيرة عام ... ربما لأنها كانت آخر الحروب التي شهدناها سوياً قبل سفري ..
تذكرت تجمهركم حول التلفاز وحالة القلق والترقب التي كانت تعتريكم وأنا كنت دائماً أقول لك اهدئي يا أمي ولا تحلمي بالنصر الأكيد .. لا أشم رائحة النصر قادمة إلينا وأنت تقولين لي دعي عنك هذا التشاؤم .
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ولم ننتصر أتيت لزيارتي يومها صباحاً وجلسنا نحتسي قهوة الصباح قلت لي والحسرة تغمرك معك حق يا ميساء يبدو أن النصر بعيد .. بعيد .. وشردت بعينيك بعيداً عني .. ربما أخذتك الذاكرة إلى سلسلة الحروب التي عاصرتيها في حياتك وكانت جميعها انكسارات وهزائم أدت بنا إلى ما وصلنا إليه ..
شعرت بأنني قسوت عليك حين كنت لا أبثك الأمل والتفاؤل اللازمين .. لكنني كنت في حينها أخاف عليك من فرط حالة التفاؤل والأمل التي كانت تعتريك .. وأنا يا أمي كما عهدتيني لا أنساق بسرعة وراء أحد .. ولا أحكم على أحد مهما كان مهماً وشجاعاً حتى أرى بأم عيني نتائج أفعاله ..
قد أكون أنا متطرفة في هذا الموضوع وقد أكون أنانية بعض الشيء لأنني دائماً أضع القدس نصب عينيَّ بحيث لا أرى أن هناك أي نصر دون عودة القدس السليبة ..
طالما القدس لم تعد يا أمي فهذا يعني أننا لم ننتصر ..
اعذريني يا أمي فالقدس تعني لي الكثير وحبها في قلبي كحبي لك بالضبط يزداد كل يوم ويفجره الشوق والحنين وطول المسافات ..
القدس تتآكل كل يوم عن يوم وأنا أصبحت اليوم بحالة من اليأس لم أصلها في يوم .. أشعر أن العمر يركض وملاعب الطفولة لن تنتظرني وباحات الحرم هرمت وشاخات وظهرت التجاعيد على وجنتيها البراقة وأخشى ما أخشاه أنها ما عادت تعرفني ..
صعب يا أمي أن تشعري أنك بهذه الحياة نكرة ..وحدك فقط تعرفين من تكونين ومن أي بلاد طاهرة أتيت والله وحده يعلم متى تعودين وإن كان أصلاً بعد كل هذا العذاب يوجد مخطط للعودة .. أشبعونا وعوداً كاذبة وتنازلات فُضحت وفضَحت معها الكثيرين وأمل العودة أصبح كخيط دخان ..
أمي كتبت لك اليوم ليس لأبثك حزناً أو قهراً لا سمح الله بل لأقول لك أنني هذه المرة وضعت الأمل والثقة بجيل الشباب وأن الأمل عاد ينام في مخيلتي ويصحو معي في الصباحات الجميلة ويشرب معي قهوة الصباح وأحدثه عنك وعن الأمل بالعودة لتلك الديار .
رسائل إلى أمي
الرسالة الثانية
صباح الخير يا أمي ..
مع أن هذا الصباح جميل جداً ومشرق جداً ويضحك بملء فيه لكنني لست مشرقة مثله بالرغم من أنه يغمزني بطرف عينه ويرسل إليَّ قبلات حارة من الإشراق والضياء لكن قلبي اليوم مقفل عن كل إشراق وضياء ..
اليوم فقط تمنيت لو أن الغد كتاب مفتوح أقرأ فيه كل حرف ..
لا أريد أن أعترض عليه ..
لكنني أريد أن أعرفه .. أريد أن يهدأ قلبي .. تعبت من الركض في حقول التفكير على غير هدى ودون جدوى ..
فقط أريد أن أعرف بقية هذا المشوار إلى أين ؟
لا أعلم لماذا أشعر أن كل هذا العالم يلتف كإخطبوط حول عنقي .. تكون الأمور في البداية .. في كل بداية متسعة جداً ثم تأخذ بالضيق والالتواء حتى تصبح خانقة جداً وأنا كما تعرفين يا أمي أكره الأجواء الخانقة ..
وأكره كل من يقيد أنفاسي وكل من يحاول أن يرسم لي خارطة جديدة للشقاء .
أعلم علم اليقين أن الله معي ..
ولا يعنيني من أمر الآخرين مهما اجتمعوا وقرروا ..
لكنني أحياناً أضعف وأحس كأي إنسان على وجه الأرض أن الإنسان مهمته الأولى في هذه الحياة هي بث الحب والعطف والتسامح ولكن هذا الإنسان أين هو ؟
هذا الإنسان أصبح غارقاً في همه ولا يرفع رأسه عن هذا الإطار ..
يعني باختصار يا أمي هذه الدنيا لا يوجد فيها أحد همه على همي أو قلبه على قلبي..
وفي ظل هذه الالتواءات والتعرجات وكل هذا الضيق لا أرى أحداً ..
لذلك يا أم أنا من هذه اللحظة أضع قدمي على حافة مشوار جديد ..
لا أعلم شكل هذا المشوار ولا أعلم متى يبدأ ..
لكن كل ما أعلمه أنني حرّمت على نفسي أن تفكر بالغد أو أن تستقبله على موائد أحلامها .. فليأت الغد بأي شكل يريده لكن أنا لن أحلم فيه .. ولن أنتظره ..
مللت من انتظار الغد الذي أريد وهو لا يريد ..
قبلاتي لك يا أمي ولا تقلقي عليَّ ..
بعد أن أكتب لك سأكون بألف خير ولا تنسي أنك أنتِ وحدك وطني ..
وبعدك لا وطن لنا .
رسائل إلى أمي
الرسالة الثالثة
مساء الخير يا أمي ..
جاءني صوتك بالأمس قلقاً .. فزعاً .. حزيناً .. ممطراً بالحنين والاشتياق ..
أنا لم أتعمد إخفاء شيئ عنك لكنني أقدر فزعك هذا وقلقك وخوفك .. حتى هذه الرسائل التي أكتبها إليك الآن أخاف عليك من قرائتها ولولا شعوري بالحاجة الماسة لهذه الكتابة وهذه الرسائل ما كنت كتبت .
أنا يا أمُ أقضي ساعات النهار تتقاذفني نشرات الأخبار من كل صوب .. بين مدٍّ وجزر ..وأخذ ورد .. لأستقبل ليلي فتستأسد عليَّ كوابيس الليل .. تنهش أحلامي .. تقلق راحتي .. تفزع ليلتي وتقتل صباحي الذي ينبثق من تلك الليلة .
أراك في المنام وأرى معك أبي .. أراكما بصورة أخرى .. وأنا بينكما في حيرة واضطراب وصراع .. لا أعلم من أين تأتيني هذه المنامات التي تقلقني وتفزعني وتفرش لها مساحات من الحيرة والاضطراب على موائد صباحاتي فأغدو كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ..
أحلم وأنقض الحلم ..
لأنني لا أجد ما أفعله ..
ليس بيدي أي شيء أفعله ..
فالحلم بعد أن أصبح يتراقص أمام عيني ويغريني بمتعة الاستقرار أخذ يبتعد عني شيئاً فشئياً حتى أصبح كالضباب .. كالسراب .. كالوطن .. ومع كل نشرة أخبار صباحية يفرط عقد جديد من عقود أحلامي ..
في المساء يأتيني الليل .. بآخر الليل الهزيع .. ليميط اللثام عن وجهه ويعرض لي منامات مفزعة .. كوابيس لا تنتهي .. وفي الصباح يأتيني صوتك محملاً بالقهر والشوق والقلق والحنين ويسافر إليك صوتي محملاً بنفس الكذبة ..
لا أعلم إن كنت تصدقين كذبي عليك .. أم أنك مثلي تغزلين هذا الصدق ثم تنقضينه في المساء ليأتيني صوتك يحمل نفس العذاب الأول ويسافر إليك صوتي يحمل نفس الكذبة .
نشرات الأخبار على التلفاز تتوالى على مسمعي .. تنبىء بثورة هنا أو عاصفة هناك وأنا على حافة الصباح أشرب القهوة بلا سكر .. أرتجف من ارتفاع ضغط الدم .. وأكتب حلماً جديداً بعنوان هل أصنع ثورة ؟
ثم أختصر المسافات .. أنهي قهوتي على عجل وأطوي حلمي تحت الوسادة وأركض إليك أصنع لك كذبة صغيرة أحتال فيها على نفسي وعليك وعلى كل من حولي وأتجنب النظر إلى تلك الحقيبة المعدة أقدامها للرحيل منذ عام النكبة ..
رسائل إلى أمي
الرسالة الرابعة
مساء الخير يا أمي ..
أعذريني ، لم أحادثك منذ أيام .. أخشى أن يفضح صوتي حزني وقهري وسخطي .. أدراي الحزن كما أداري الدموع لأننا على ما يبدو أصبحنا نخاف أن يقرأ أحد الحزن الذي ارتسم على وجوهنا هذه الأيام .
هناك أموراً لا يمكن أن تترجمها الكلمات .. لم تستطع الكلمات أن ترقى إلى مستوى أن تقرأ هكذا نوع من الحزن وتهضمه وترسمه على أوراق بيضاء ليقرأه الآخر فيهز رأسه .. قد يتمتم ببعض الكلمات .. وقد لا يقول شيئاً .. فما يقرأه عادي جداً بالنسبة إليه لأنه ببساطة شديدة هنالك الكثير من المشاعر خلقت لتُحس فقط لكنها لا تقال أبداً ..وإن حدث وقيلت فإنها تبرد وتصبح خاوية وقد تفقد الكثير من معناها وجوهرها لذلك الصمت هنا يكون سيد الموقف لكن الدموع كعادتها خائنة تنزلق وفي أصعب الأوقات .
أشعر بنفسي كلما أردت أن أقبض على شيء يتسرب من بين يدي .. كلما فتحت نافذة لأستنشق بعض الأكسجين يدخل إلى رئتي هواء ملوث يفسد ليس فقط صباحي بل كل نهاري ..
لا أعلم كيف تنقلب الأمور بهذه السرعة الغريبة ؟
لم تعد العصافير تغني على سرير النائمين .. لم تعد توقظني زقزقات العصافير .. ربما كانت هي أيضاً حزينة والهواء الذي يدخل إلى رئتيها حزين ومكسور الخاطر أيضاً ..
ربما توالي الأخبار المزعجة والمناظر المؤلمة جعلها تهجع في أعشاشها بعيداً عن بني البشر وعن طمعهم وحبهم لإفساد كل ما هو جميل وشاعري وينبض بالحب والحياة .. ربما خافت أن تصبح صيداً سهلاً لأطماعهم فيذبحون بريق الأمل في عينيها ويصادرون الفرحة هذا إن لم يقتلوها على عتبات الصباح .
حتى البحر يا أم حزين .. لم يعد ينتظر أحداً ..
والمطر يهطل على استحياء ..
الأشجار تنتفض بشدة .. ربما تحاول طرد هذا الهواء الملوث قبل أن يتمكن منها .. ربما هي محاولات يائسة منها قبل أن تستسلم له ليمزق أوراقها ويفتك بأغصانها وقد يشعلها حطباً لنزواته المجنونة ..
من يقف بوجه الهواء يا أمي ؟
أغلقت نوافذي يا أم ..
قبل أن تقوليها أغلقت النوافذ ..
طالما أن العصافير نائمة حتى إشعار آخر ..
والبحر غائب خلف الحزن حتى إشعار آخر ..
والهواء هائج مائج ملوث بالحقد والطمع حتى إشعار آخر ..
سأبقي النوافذ مغلقة عليّ وعلى قلبي وعلى أحلام المساء ..
سأبقي نوافذي مغلقة حتى إشعار آخر ..