6-تغريدات نورانية فى شهرالنور التغريدة السادسة
نفحات ربانية ومنح نورانية
قراءة فى كتاب
الوابل الصيب من الكلم الطيب
تأليف
شيخ الاسلام
محمد بن ابى بكر بن ايوب الزرعى الدمشقى
الشهير بابن قيم الجوزية691-751هجرية
(دلائل تعظيم الأمر والنهي)
(فصل)
= وأما علامات تعظيم المناهي، =
فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها،
كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها.
وأن يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس،
وأن يجانب الفضول من المباحثات خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو اليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها،
فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.
ومن علامات تعظيم النهي أن يغضب الله عز وجل إذا انتهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزناً وكسرة إذا عصى الله تعالى في أرضه، ولم يضلع باقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
=ومن علامات تعظيم الأمر والنهي
أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط،
مثال ذلك
أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصاً جافياً،
وحكمة هذه الرخصة
أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر،
فمن حكمة الشارع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر،
ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والاقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أن يصلي بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط، لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه
مقصود الصلاة ولا يحصل المراد منها،
فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.
والمقصود أن لا يترخص ترخصاً جافياً.
ومن ذلك
أنه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر
وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير
وتعذر النزول أو تعسيره عليه،
فإذا قام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة،
فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد،
بل الجمع رخصة، والقصر سنة راتبة،
فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن،
وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون وهذا لون.
ومن هذا
أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة
فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء
فيتطلب ما يصرف به الطعام فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده،
بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع ويدع الطعام وهو يشتهيه،
وميزان ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي
فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغالياً فيه حتى يفوت الوقت،
أو يردد تكبيرة الأحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة
أو يكاد تفوته الركعة،
أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئاً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.
ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئاً من بلاد الاسلام
وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك،
فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان.
فحقيقة التعظيم للامر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال.
فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه،
وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:
1- إما تقصير وتفريط، 2-وإما افراط وغلو.
فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين،
فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه،
= فإن وجد فيه فتوراً وتوانياً وترخيصا ً
أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.
=وإن وجد عنده حذرا وجداً وتشميراً ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب
أمره بالاجتهاد الزائد وسول له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعاً، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها،
ونحو ذلك من الإفراط والتعدي،
فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم،
كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه،
ومقصود من الرجلين إخراجهما عن الصراط المسقيم:
هذا بأن لا يقربه ولا يدلو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.
وقد فتن بهذا أكثر الخلق،
ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط.
والله المستعان.