البيروني ... العالم الموسوعي
"أبو الريحان البيروني" واحد من أعظم من أنجبتهم الحضارة الإسلامية في القرنين الرابع والخامس الهجريين .. نبغ في ميادين مختلفة من فروع العلم والمعرفة .. كالرياضيات والفلك والفيزياء والتعدين والصيدلة، وله في كل هذه العلوم إضافات جديدة كان لها أثر واضح في تاريخ العلم وتقدم مسيرة الحضارة .
· مولده ونشأته :
ولد "محمد بن أحمد الخوارزمي"، المعروف بأبي الريحان البيروني في (2 من ذي الحجة 362ﻫ = 3 من سبتمبر 973 م) في قرية من ضواحي مدينة "كاث" عاصمة دولة "خوارزم"،
وهى الآن تابعة لجمهورية "أوزبكستان" الإسلامية، وقد أطلق على هذه المدينة اسم مدينة "البيروني" تخليدًا لذكراه .
وقد تلقى "البيروني" تعليمه في بلدته، حيث حفظ القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وشيئًا من الفقه والحديث مثل غيره من الطلاب الذين يبدؤون حياتهم العلمية .
ثم اتجه "البيروني" إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضيات، بعد أن وجد في نفسه ميلاً إلى ذلك، فتتلمذ على يد "أبى نصر منصور بن على بن عراق"، وكان عالمًا مشهوًرا في الرياضيات والفلك، وعمل تحت إشرافه في مرصده الفلكي .
· التنقل بين "الري" و"جرجان" :
ظل البيروني في موطنه حتى تجاوز العشرين من عمره، ثم رحل عنها ، واتجه إلى مدينة "الري" سنة (384 ﻫ)، القريبة من "طهران"، وفى أثناء إقامته بالرى التقى بالعالم الفلكي "الخوجندى" المتوفى سنة (390ﻫ)، وأجرى معه بعض البحوث الفلكية على أحد الجبال الموجودة في "الري" .
ثم انتقل إلى "جرجان" وحظى برعاية ملكها "قابوس بن وشمكير"، وكان أديبًا كثير الحفاوة بالعلماء، وفى أثناء إقامته التقى بأكبر أساتذته الطبيب الفلكي "أبى سهل عيسى بن يحيى" المتوفى سنة (389ﻫ)، وشاركه في بحوثه، كما قام بتأليف عدة كتب، أهمها كتاب "الآثار الباقية من القرون الخالية" .
· في بلاط الغزنوى :
ثم بعد فترة انتقل "البيروني" إلى "غزنة"، وهى الآن "كابل" عاصمة "أفغانستان" وعاش في بلاط السلطان "محمود الغزنوى" مشتغلاً بالفلك والفيزياء والتعدين وغيرها من العلوم .
كما رافقه في معظم فتوحاته العسكرية في بلاد "الهند" التي بلغت سبع عشرة موقعة، وقد اغتنم "البيروني" فرصة وجوده في "الهند" حيث كنوز العلم والمعرفة، فنقل إلينا كثيرًا منها، وضمنها كتبه ومؤلفاته، وبخاصة كتابه الذي أفرده للحديث عن "الهند" باسم "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" .
وبعد وفاة السلطان "محمود الغزنوي" سنة (421ﻫ) خلفه ابنه "مسعود"، وكان محبًّا للعلوم والثقافة، يشجع العلماء ويوفر لهم كل ما يحتاجون إليه، ووجد "البيروني" في بلاطه كل تقدير وثناء، فأكب على التأليف والتصنيف، وأهداه أكبر كتبه في الفلك والرياضيات الذي أطلق عليه "القانون المسعودى" .
وظل "البيروني" محل تقدير الغزنويين حتى بعد وفاة السلطان "مسعود" سنة (439ﻫ) .
وقد توفى "البيرونى" في (3 من رجب 440ﻫ = 13 من ديسمبر 1048م)
· بحوثه العلمية :
كان للبيرونى أبحاث جديدة في علم الفلك والفيزياء والتعدين والصيدلة والجغرافيا، والجيولوجيا.
ففي مجال الفلك قال بوجود قوى للجاذبية بين الأجسام قبل أن يكتشفها "نيوتن" المتوفى سنة (1727م) .
وابتكر "البيروني" الإسطرلاب الأسطواني الذي لم يقتصر على رصد الكواكب والنجوم فقط، بل كان يستخدم كذلك في تحديد أبعاد الأجسام البعيدة عن سطح الأرض وارتفاعها، ووضع نظرية لحساب محيط الأرض لا تزال تعرف باسمه حتى الآن في الكتب المدرسية .
وفى مجال التعدين ابتكر جهازًا يستخدم في قياس الوزن النوعي للفلزات والأحجار، ويعد أقدم مقياس لكثافة المعادن .
وسبق في علم الجيولوجيا إلى القول بنظريات رائدة في تكوين القشرة الأرضية وما طرأ على اليابسة والماء من تطورات خلال الأزمنة الجيولوجية .
وكتب في الصيدلة موسوعة علمية باسم "الصيدنة" ترشد الصيدلي إلى جميع الأدوية واختيار الأجود منها وتحضير عدد من المركبات الكيمائية، واستخدام الأجهزة في عمليات التقطير والترشيح وغيرها .
وكتب في مجال الاجتماع والحضارة كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة " وهو من أهم الكتب التي تعد مرجعا لكل دارس للثقافة الهندية، وما للهنود من عادات وتقاليد ومعتقدات وشرائع وفلسفة وأدب وتاريخ .
وعلاوة على كل ذلك فإن للبيرونى جهودًا علمية في الترجمة، فقد ترجم اثنين وعشرين كتابًا من التراث العلمي الهندي إلى اللغة العربية، كما ترجم بعض المؤلفات الرياضية من التراث الإغريقي إلى العربية .
· مؤلفات "البيروني" :
بلغت مؤلفات البيروني أكثر من أربعين كتابًا في مختلف فروع المعرفة، منها :
1- "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، وهو يبحث في التقاويم الفلكية والأعياد عند الشعوب والأديان المختلفة في ذلك الوقت، كاليونان والرومان والفرس والقبط، والنصارى واليهود وعرب الجاهلية، والكتاب مطبوع الآن .
2- "الجماهر في معرفة الجواهر"، وهو كتاب يبحث في الفلزات والمعادن وبخاصة الأحجار الكريمة، وطبع الكتاب في "الهند" سنة (1936م) .
3- "القانون المسعودى في الهيئة والنجوم"، وهو يتألف من (12) فصلاً يقدم فيها "البيروني" إسهاماته في علم الفلك كله، مع حساب التوقيت وحساب المثلثات والرياضيات والجغرافيا، وطبع الكتاب بالهند سنة (1924م) .
4- "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم"، وهو موسوعة تعرض لمصطلحات الهندسة والحساب والفلك والجغرافيا والأوقات، وتصف الأجهزة الفلكية، و طبع الكتاب مع ترجمة إنجليزية له في" لندن" سنة (1934م) .
5- "تحديد نهاية الأماكن لتصحيح مسافات المساكن"، وهو كتاب في الجغرافيا الرياضية حيث يقوم بتحديد العروض الجغرافية والاختلافات في تحديد أطوال المواضع، و طبع الكتاب في "تركيا" سنة (1958م) .
· شخصية "البيروني" :
أجمع كل من كتب عن "البيروني" على أنه نبغ في كل علوم عصره، وهو مع تبحره في الأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا، كان اهتمامه الأكبر يتجه إلى الرياضيات والفيزياء والفلك والفلسفة، إلى جانب إتقانه للغات كثيرة كاليونانية والفارسية والهندية.
وقد وهب حياته كلها للعلم، ولم تشغله الدنيا في الانصراف عنه، وكان القلم لا يفارق يديه، وكان زاهدًا في المال إلا ما يكفى حاجته، وقد أشاد بمكانة "البيروني" العلمية كبار مؤرخي العلم من أمثال : "سخاو" و "سارتون".
ولمكانته العلمية وبحوثه الرائدة في علوم الفضاء اختير من بين (18) عالمًا إسلاميًّا، أطلقت أسماؤهم على بعض معالم سطح القمر .
· "البيروني" في سطور :
- ولد "محمد بن أحمد الخوارزمي" المعروف بالبيرونى سنة (362 ﻫ) .
- اتجه "البيروني" إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضيات والفلك .
- انتقل إلى "الري" وعمل مع العالم الفلكي "الخوجندى"، وأجرى معه بعض البحوث الفلكية .
- انتقل إلى "جرجان"، وفى أثناء إقامته التقى بالطبيب الفلكي "أبى سهل عيسى بن يحيى" المتوفى سنة (389ﻫ) وشاركه في بحوثه .
- ضمه السلطان الكبير "محمود الغزنوى" إلى بلاطه، واصطحبه معه في فتوحاته المتعددة إلى "الهند"، وكان موضع تقديره وتقدير ابنه "مسعود" الذي خلفه في الحكم.
- قدم "البيروني" أبحاثًا جديدة في الفلك والفيزياء والرياضيات والتعدين والجيولوجيا والجغرافيا .
- من أشهر مؤلفاته : "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، و"القانون المسعودى"، و "الصيدنة"، و"التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" .
- توفى "البيروني" في "غزنة" في سنة (440ﻫ ).